حمدي ابو جليل
حمدي ابو جليل


محمد بدوى يكتب : رواية مختلفة عن موضوع تقليدى

أخبار الأدب

الجمعة، 23 يونيو 2023 - 01:04 م

قبل روايته «لصوص متقاعدون» الصادرة أخيراً، كان أبو جليل أصدر مجموعتين قصصيتين هما «أسراب النمل» و«أشياء مطوية بعناية فائقة»  فى العامين 1997 و 2000 على التوالى، وعلى الرغم من أن المجموعتين تمثلان مرحلة التدريب الكتابى لأبى جليل، إلا أنهما، مع ذلك كانتا تومئان إلى ما سيكتبه بعد ذلك، الكتابة لا تعنى صوغ معرفة منجزة سلفا، بل تعنى محاولة الفهم، والبحث عن معنى وسط ركام التفاصيل، والتشوش، مع نزوع إلى السخرية والمرح، ووعى حاد بدور اللغة، وخطورة تفجرها من دون لجمها.

فى «لصوص متقاعدون» تصبح محاولة الفهم طريقاً إلى تفكيك مفردات العالم وتفاصيله، ما يشى بنفحة نيتشوية - فوكوية، انتقلت إليه غالباً عبر كتابة كونديرا التى شهدت انتشاراً واسعاً  فى العربية، والتى يبدو أنها كانت فى حاجة- تصل إلى درجة التطلب- إلى ترجمته. أما السخرية الجاحظية فقد أصبحت أثقل، لأنها لم تعد مجرد فكاهة جزئية عابرة، بل أداة تفكيك للعالم وتعريضه للسؤال كوجود ينطوى على خطأ لازم لاستمراره، يعنى هذا أن الكاتب يحول السخرية لا إلى صوت معبر عن مجرد القمع، حيث السخرية أداة المقموعين، بل إلى تجريد العالم من زيفه الذى يقنع الحقيقة المنطوية على نقيضها، أى تصبح السخرية وسيلة لتوليد فلسفى، لابد له من أن ينطوى على الشك والريبة وإرهاف الأدوات وصقلها.

 السخرية تعبر عن القمع بما تنطوى عليه من مرارة مكتومة، لكنها تتجاوز ذلك حين تمارس سوء الظن بالعالم، فتلعب على تناقضاته وتكشف ما تنطوى عليه من مفارقات، لن يصبح الكاتب شارح أفكار فلسفية وأيديولوجية لأن الدعاوة تتناقض مع السخرية، فالدعاوة عابسة جهمة والسخرية لعوب، ولن يصبح- أيضاً- مضحك القوم، ذلك الذى يجعل السخرية معابثة وأداة ترويح بتفريغ السخرية من طاقتها الهادمة، بل سيصبح معترضا على تفاهة العالم ونيتشويته، بلغة كونديرا، واضعاً نفسه كما تقول البلاغة النيتشوية وراء ما هو مطلق وكلى: الخير والشر، الجمال والقبح، بذلك يصبح الروائى خائناً للوصايا، واضعاً نفسه فى موقع أخلاقى، لكنه مناوئ للأخلاق السائدة، لكن ما هو إيجابى فى هذه السخرية قد يصبح سلباً، فالكاتب الساخر التقليدى فى ثقافتنا قد يؤخذ بقدرته على المرح، فيتحول إلى صائد مفارقات لفظية، فيمتهن الإضحاك، ولكى يصبح قادراً على الاحتفاظ بالطاقة التدميرية للسخرية لابد له من تدريب يومى على التوليد الفلسفى الذى لم يعد له كتابنا الذين نشأوا فى ثقافة تعتد ب «الموهبة» وتتوجس من الفكر ويحلو لكتابها المفاخرة بالانغماس فى الواقع اليومى وهجاء ديدان الكتب.

اقرأ ايضاً| عبدالله العقيبى يكتب : صوت «الجماعة» فى السرد المصرى

لكن أبوجليل، وإن كانت مادته الأولية واقعية، يطلب من قارئ روايته ان يفترض أنه يعيش حياته كشخصية فى رواية ليدخل فى أجواء تجربة نادرة ، فلأبطال الروايات ألاعيب عجيبة، لا يمكن أن يقوموا بها خارج مربع الورقة، وهو أمر صار الآن مكروراً ومتواترا فى الكتابة المعاصرة، ويقصد الكتاب به أن يؤكدوا ورقية شخصياتهم، أى خضوعها لقوانين الكتابة المختلفة عن الواقع، والحق أن كل ما هو لغوى غير مرجعى على وجه الدقة لكن الاسراف فى توكيد الورقية على هذا النحو لدى كونديرا وفاولر ورشدى ولوستر، اعلان عن رفض المسرحة والايهام بواقعية المشهد، أى التمثيل عموماً، يرافق ذلك الإسراف أحياناً فى إعلان الكاتب عن نفسه، وتوجيه الحديث إلى القارئ ومناقشة تطور الشخصية، ومدى الممكنات المتاحة أمام الكاتب لانمائها فى ضرب من ضروب السرد الشارح، ذلك كله موجود فى لصوص متقاعدون وإن وجد نقيضه، ذلك أن إرث الكاتب عن التجربة والواقع  والاستعانة ب «التاريخ  الشخصى» فضلاً عن ثقل حضور الواقع التاريخى فى الرواية يتجلى بالقدر نفسه، فنصبح أمام ازدواج جلى.

الضمير اللغوى الدال على الأنا يشير إلى ازدواج الصوت، فيتداخل صوت المؤلف الضمنى مع صوت الراوى، لأن الأنا تشير مرة إلى الكاتب ومرة إلى إحدى الشخصيات الاساسية، دليل ذلك أنه ليس شاهد عيان فقط بل سارداً عليما بكل شىء يعرف أكثر مما يعرفه الآخرون، حين يختص السرد بالأنا كشخصية منغمسة فى الفعل، يصبح شاهد عيان، وحين يمارس وظيفة الكاتب الساخر الذى يفكك الاحداث وهو يسردها، يصبح عليماً بكل شىء قادراً على التفلسف، ساخراً لا من تاريخه الشخصى، بل من ابتهاجه بتأمله العميق ومن ثم نصبح مع كتابة وعى عن الذات فى جانب.

ومع محاولة تنظيم السرد من جانب آخر، ولذلك فإن المتكلم فى النص يحاول تدشين مركز للسرد، لكن هذا المركز سرعان ما يتأبى على الاستقرار لأن قانون التفكيك المرح يطاوله كما يطاول الجميع. هذا الازدواج ماثل أيضاً فى شخصية جمال، فى جانب هى شخصية كاتب لكن ما يكتبه يضن به على الناس فلا يطلع عليه أحد، سوى السارد المزدوج، وفى هذا ثمة  علاقة بين السارد الكاتب وبين جمال. كلاهما يدخن المخدر ويشتهى التنوع الانثوى لكن أحدهما كاتب محترف، والثانى كاتب يرى أن من الجنون التفريط فى أفكار بنشرها، وفيما تساعد جمال مواهبه؛ الوسامة والجاذبية والولع بالمغامرة، يأخذ الراوى هيئة ثعلب متربص يحتال على رغباته ويكمن فى العتمة، لأن جمال قوى فيما الراوى ليس كذلك، ولعل فعل الكتابة نفسه دلالة على هذا الخوف، والتوجس والرغبة فى الموت، أتاحا ازدواج شخصية السارد للكاتب أن يدس أفكاره وتأملاته من أجل تنظيم المعنى، وهو الدور نفسه الذى أوكل السرد إلى جمال كعنصر من عناصر شخصيته. ازدواج الشخصيتين نهض بمهمة محددة هى التعليق والسخرية، أى أن كليهما يقوم- فى جزء محدد من تكوينها - بدور الفم الاخلاقى للنص، وتوكيد صفة الشرح فيه.

 يصبح الازدواج أكثر وضوحا فى مفهوم الكتابة نفسه، أعنى الازدواج بين مفهومى الواقع والاختلاق ما بعد الحداثى، بل أن الرواية تكتب موضوعاً تقليدياً فى الادب المصرى حيث يأخذ المكان الضيق المغلق على نفسه دور البطولة، فنتذكر قول نجيب محفوظ عن «زقاق المدق» بأنه مصيدة ونتذكر إمبابة «مالك الحزين» التى ترسم لوحدة العلاقات اليومية بتفاصيلها، وزخمها. فى الروايات الثلاث حياة هامشية مبعدة ونفحة سخرية، لكنها لدى محفوظ ملجومة بالكتابة الواقعة الاخلاقية ولدى إبراهيم أصلان سخرية شفيفة حانية مبطنة بفنائية مكتومة. فى «لصوص متقاعدون» سخرية مدمرة تكشف عن شك يكاد يتحول إلى يقين فى لا منطقية العالم وخداعه لنا، سعياً إلى إطلاق القهقهة ما بعد الحداثة، فى وجه العالم، لهذا لا مجال للحديث عن مطابقة الخطاب للحكاية أو انبناء اللاحق على السابق، وإنما نقترب من مفهوم الشذرة النتيشوية بعد صوغ كونديرا له فى مجال السرد. أقول نقترب لأن الازدواج المشار إليه سلفاً ماثل هنا أيضاً بين الاكتمال، اكتمال المعنى والشكل وبين النقص حيث الانبثاق والتولد للأفكار دون كبير اهتمام بالوفاء لشكل روائى مكتمل، وفى هذا تتصادم الشذرات وتتكامل يشدها نسيج يمكن تحديده فى عنصرين وحدة المكان، ووحدة السارد. هل يعنى هذا وجود حكاية؟

ذات يوم زار جمال عبدالناصر أحد مصانع الحديد فى حلوان، كان المسئولون قالوا له: إن العمال يبيتون فى المصنع، ففهم الزعيم انهم يفعلون ذلك من أجل زيادة الانتاج. وحين رآهم وضع يده على أحدهم وهو يدعوه ب «البطل» الذى يجسد فكرة الثورة متوقعاً أن يسمع منه ما يسره عن الوطن والثورة وإنكار الذات والتضحية بالراحة، لكنه فوجئ حين أخبره العامل بأنهم ينامون فى المصنع لأنهم بلا بيوت، كان لابد للزعيم من الدفاع عن ثورته، فأشار بيده إلى رجاله بأن يبنوا هناك، فى هذا الفضاء القريب منطقة سكنية للعمال، فى ما بعد صار العامل بطلاِ وسمى ابنه الأكبر باسم جمال، وصار صاحب ملك هو البيت الرقم 63 فى منشية ناصر، أما سكان البيت ومن حوله فقد فازوا ببطولة رواية  «لصوص متقاعدون».

وهكذا أتاحت منشية ناصر والبيت الرقم 63 للكاتب أن يسيِّح الفضاء فيصبح البيت مدخلاً  للحى، والحى مدخلاً للمجتمع، ليكتب فضاء تهيمن عليه الواحدية التى تبدأ من الله (سبحانه وتعالى) ثم الزعيم ثم أبى جمال بانى البيت وصاحبه والمهيمن على أقدار سكانه، بيد أن هذه الواحدية تكتب من أجل التفكيك الذى لا يطاولها فقط، بل يطاول أيضاً ضحاياها على سلطتها، وهكذا ستتنوع الشخصيات: المثقف الآتى من أصول بدوية، والعامل الناصرى الذى أصبح مالكاً، والأبناء: تاجر المخدرات الوسيم زير النساء جمال، وعامر اللص وزوجته، وسيف الذى يشق العالم بجسده من خلال الاستعراض، محاولاً الانفلات من ضيق الواقع إلى الخيال، والجنس المثلى، ثم بقية السكان: المدرس من أصل ريفى والشاعر المجهض ضحية أصالة الشعر والماضى والحياة، وعادل كوفتيس (إشارة إلى قبطيته) والممرضة التى تتاجر فى جسدها تحت حماية أبى جمال، وفى هذه الرواية ستجد فضاء مهترئاً يمكن السير سيولوجى أن يجد فيه مادة غنية عن مدن الهامش والتلوث وترييف الحداثة وصيرورة ثورات العالم الثالث، ويمكن لناقد الأدب الاجتماعى أن يجد فيه كتابة لعالم مغلق على نفسه على رغم انفتاحه على ما حوله من عوالم، تغزوه وتبث فى انحائه، ولهذا فإن الرواية تحقق مقولة باختين عن الرواية مجمع اللغات لا فى الحوار فقط، بل فى السرد المطعم بألفاظ تنتمى إلى مستويات لغوية متعددة  حتى لتبدو اللغة معرضاً للحروب والصراعات، خصوصاً ان العالم يكتب من خلال السخرية التى تطاول كل شىء: اللغة المقدسة، لغة النقد الأدبى ولغة الميديا المعاصرة، ولغة الحياة السرية للقاع الاجتماعى، فى هذا كله تكشف الكتابة عن عنف العالم وحروبه، وعن مجتمع يتهرأ ويتخثر، أى ان الرواية تطارد السلطة فى تجليات كثيرة: السلطة السياسية منذ اسطورة الحداثة الناصرية حتى الآن سلطة المقدس ووظائفه المتغيرة بصفته حائطاً أخيراً للمهمشين إزاء التوتر الناتج من تغير الواقع المشوه مع سلطة الذكورة والأنوثة فى فضاء يأخذ كل شيء بعنف ومن دون متعة سوى متعة الألم.

وبالطبع فإن هذا كله يكتب من خلال سرد تحليلى لسارد ذرب اللسان قادر على تفجير الفكاهة مولع باقتناص الشر، يدرب نفسه على استئناف الاسئلة وفى دروب الكتاب سيجد القارئ تفكيكاً للكراهية والشفقة والاستعراض والأبوة والصداقة وحروب الفئات والأعراق والطوائف، وهشاشة الجسد الإنسانى وقابليته للعطب، إنها كتابة مضادة للأخلاقية السائدة فى العالم الذى نعيش، تفتت ثقافة لم تعد قادرة على الوفاء بحاجات الناس الروحية، ومن ثم يضطرون لاختراقها، أو إشهار سلاح الحيلة، للنفاذ من صدوعها ولاتقاء جثومها الثقيل، ومن هنا تكمن أهمية هذه الرواية فى الكتابة العربية، التى تتهيأ لتغير أساساً، نلمح قسماته فى كاتب هنا، أو كاتب هناك، للدخول فى حساسية مختلفة عن حساسية قديمة عتقت، وأضحت تكراراً وإعادة إنتاج لنفسها.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة